الرئيس اللبناني في بغداد.. العراق ترياق لبنان ودعوة لتأسيس شراكة عربية من أجل مستقبل أفضل

كتب: هاني سليم

في محطة جديدة من محاولات ترميم العلاقات العربية وإعادة الاعتبار للتضامن الإقليمي، جاءت زيارة الرئيس اللبناني جوزف عون إلى بغداد لتكرّس توجهًا استراتيجيًا نحو تفعيل الشراكة بين بيروت والعاصمة العراقية، ولترسم معالم رؤية لبنانية جديدة قوامها المصالح العربية المتبادلة والواقعية السياسية بعيدًا عن الصراعات والمحاور الإقليمية التي أثقلت كاهل لبنان لعقود.
استُقبل الرئيس اللبناني في مطار بغداد الدولي بمراسم رسمية رفيعة، شملت استعراض حرس الشرف وعزف النشيدين الوطنيين للبلدين. وفي القصر الحكومي، عقد الرئيس اللبناني ورئيس الوزراء العراقي مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا، عبّر خلاله السوداني عن دعم العراق الثابت لوحدة وسيادة لبنان، ورفضه لأي اعتداءات تمس أرضه أو تقوض مؤسسات الدولة فيه.
السوداني قال: “العراق يقف مع لبنان في كل الأوقات، ويدعم وحدة أراضيه وتماسك مؤسساته وحقه في تشكيل حكومة تعكس تطلعات شعبه”، مشيدًا بنجاح القوى اللبنانية في تشكيل حكومة جديدة “تمثل خطوة واثقة نحو الاستقرار السياسي”.
من جانبه، ثمّن عون مواقف العراق المشرفة تجاه لبنان، قائلاً: “نحمل إلى بغداد كل الامتنان على ما قدمته للعاصمة اللبنانية من دعم إنساني واقتصادي. لقد أصبح العراقيون في نظر اللبنانيين ترياقًا حقيقيًا لكل أزمة، لا مجرد قول مأثور”.
تكامل اقتصادي وتنسيق إقليمي
الجانب الاقتصادي كان حاضرًا بقوة في المباحثات بين الطرفين، حيث استعرض السوداني وعون آفاق التعاون في الطاقة، والاتصالات، والاستثمار، والتبادل التجاري. وأكد السوداني أهمية القطاع الخاص، ودعا إلى تمكينه في كلا البلدين ليكون المحرك الحقيقي للتكامل والتعاون الإنتاجي.
كما تطرق المسؤولان إلى “الصندوق العربي لإعادة إعمار لبنان”، وهي مبادرة عراقية حظيت بدعم عربي، حيث ساهم العراق بمبلغ 20 مليون دولار لدعم جهود التعافي الاقتصادي في لبنان، وفق ما أعلنه السوداني خلال المؤتمر.
وأكد رئيس الوزراء العراقي على ضرورة دعم لبنان ليس فقط اقتصاديًا، بل عبر موقف سياسي واضح في المحافل الإقليمية والدولية، مشددًا على “تطبيق القرار 1701 كاملاً، ووقف الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة التي تمثل خرقًا سافرًا للقانون الدولي”.
نداء لبناني لتبني “نظام المصلحة العربية المشتركة”
في موقف لافت حمل دلالات استراتيجية، دعا الرئيس اللبناني إلى تبني نظام المصلحة العربية المشتركة كإطار مرجعي للتعاون العربي، يُعيد صياغة العلاقات البينية على أسس عقلانية تحكمها المصالح الاقتصادية والأمن الجماعي، وليس الولاءات أو الاصطفافات.
وقال عون: “لقد آن الأوان للدول العربية أن تبني نموذجًا جديدًا للعلاقات فيما بينها، يستند إلى المصالح المتبادلة وتكامل الإمكانيات، لا إلى التنافس على النفوذ والولاءات الخارجية”. وأضاف: “لبنان لن يكون أداة في يد أي طرف، بل يسعى إلى بناء شراكات قائمة على احترام السيادة وعدم التدخل، تمامًا كما يفعل العراق”.
وأشاد الرئيس اللبناني بدور المرجعية الدينية العراقية، وخصّ بالذكر المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، قائلًا: “لقد قدمت المرجعية في النجف خارطة طريق متقدمة للحفاظ على السلم الأهلي واحترام التنوع، وهي نموذج يُحتذى في إدارة التعدد داخل الوطن الواحد”.
القضايا الإقليمية في صدارة المشهد
الملفات الإقليمية فرضت نفسها على جدول المباحثات. وأكد الجانبان موقفهما الموحد تجاه القضية الفلسطينية، ورفض ما يتعرض له الفلسطينيون من “إبادة جماعية وتجويع ممنهج” في غزة، كما وصفها السوداني. وعبّر الرئيسان عن قناعتهما بأن “لا حل ممكن دون قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967”.
كذلك جدد العراق دعمه لاستقلال سوريا ووحدة أراضيها، مع التشديد على ضرورة منع التدخلات الخارجية التي تؤجج الصراع الطائفي والعرقي في البلاد.
شراكة أمنية وتنسيق استخباري
وفي الجانب الأمني، شدد الرئيس اللبناني على أهمية التعاون بين الأجهزة الأمنية في البلدين لمواجهة التحديات المشتركة، وفي مقدمتها الإرهاب، والتطرف، وتجارة المخدرات. وقال عون: “لبنان والعراق يتشاركان في همّ الأمن الوطني. الإرهاب لا يعترف بالحدود، وتبادل المعلومات والخبرات أصبح ضرورة وليس خيارًا”.
وأشاد عون بالدور العراقي في محاربة تنظيم “داعش”، معتبراً أن العراق خاض “معركة نيابة عن الجميع”، وأن انتصاره هو مكسب للأمن الإقليمي.
لقاءات رسمية موسعة وتأكيدات متبادلة
زيارة الرئيس اللبناني شملت لقاء ثنائيًا مع الرئيس العراقي عبد اللطيف جمال رشيد، الذي رحب بالرئيس الضيف، وأكد على “عمق الروابط الأخوية بين البلدين، والحرص على توسيع آفاق التعاون بما يخدم تطلعات الشعبين”. كما جرى خلال اللقاء استعراض الأوضاع في المنطقة، والدعوة إلى التهدئة والحوار.
وعقد الجانبان اجتماعًا موسعًا بحضور عدد من الوزراء من كلا البلدين، ناقشوا خلاله سبل تفعيل اللجان المشتركة، وتعزيز المشاريع التنموية، وتوسيع دائرة التبادل التجاري، وتسهيل إجراءات الاستيراد والتصدير.
وفي ختام الزيارة، عبّر عون عن شكره للشعب العراقي وقيادته، قائلاً: “لن ننسى الدعم العراقي النفطي الذي أسهم في صمود اللبنانيين خلال أصعب المراحل”، مشيدًا أيضًا باستضافة بغداد للقمة العربية التنموية والاقتصادية، ومعتبرًا أن “العراق يستعيد موقعه القيادي عربيًا”.
رؤية لبنانية جديدة.. ورسالة للعرب
تحمل زيارة الرئيس عون إلى العراق أكثر من دلالة، فهي ليست فقط تعبيرًا عن امتنانه للدعم العراقي، بل هي محاولة لإعادة لبنان إلى الحاضنة العربية على أساس الندية والتكامل لا التبعية. إن دعوته إلى اعتماد “نظام المصلحة العربية المشتركة” ليست مجرد شعار، بل تعكس تحوّلاً في الخطاب اللبناني نحو الواقعية والانفتاح الاقتصادي والسياسي بعيدًا عن الأدلجة.
وفي المقابل، تثبت بغداد مجددًا أنها لاعب محوري في ترميم البيت العربي، عبر مواقف متزنة وشراكات بنّاءة. وبين بيروت وبغداد، تتشكّل اليوم خريطة تعاون جديدة عنوانها: السيادة، والاستقرار، والتنمية المشتركة.