مصرف لبنان يستعد لإصدار أوراق نقدية جديدة بعد ست سنوات من الأزمة الاقتصادية

كتب: هاني سليم

في خطوة طال انتظارها وسط انهيار اقتصادي غير مسبوق، أقر مجلس النواب اللبناني مؤخرًا تعديلات مهمة على قانون النقد والتسليف، تتيح لمصرف لبنان إصدار أوراق نقدية جديدة بفئات عالية تصل إلى خمسة ملايين ليرة لبنانية. هذا القرار، الذي جاء بعد أكثر من عامين من المناقشات التشريعية، يُعد جزءًا من محاولة يائسة لمجاراة مستويات التضخم الجامحة التي قضت على أكثر من 98% من قيمة العملة الوطنية منذ بدء الأزمة في أواخر عام 2019.
خطوة تشريعية اضطرارية تحت وطأة الانهيار
لم يكن المسار التشريعي الذي أدى إلى إقرار التعديلات سهلاً. فقد استغرق أكثر من عامين من الجدل والمناقشات، وسط انقسام سياسي حاد وأزمات معيشية خانقة يعيشها الشعب اللبناني يوميًا. التعديلات شملت المواد من الثالثة إلى الثامنة من قانون النقد والتسليف، بما يخول مصرف لبنان رسمياً إطلاق سلسلة نقدية جديدة تتناسب مع الواقع الاقتصادي المتردي.
الاقتراح الذي تقدم به النائب زياد حواط عن حزب “القوات اللبنانية”، كما أشار موقع “lorientlejour”، جاء كاستجابة مباشرة للأوضاع الاقتصادية الكارثية التي دفعت الفئات الصغيرة من العملة إلى حافة العدمية الاقتصادية، وأجبرت المواطنين على حمل أكوام من النقود لتسديد أبسط الفواتير.
الأوراق النقدية الجديدة: حل أم مسكن؟
بموجب التعديلات، أصبح مصرف لبنان مخولاً بطباعة أوراق نقدية من فئات 500 ألف، مليون، مليوني، وخمسة ملايين ليرة لبنانية، إضافةً إلى إصدار عملات معدنية جديدة بقيم 1000، 5000، 10000، و20000 ليرة.
هذه الخطوة، وإن كانت ضرورية لمواكبة الوضع النقدي، تثير قلق العديد من الخبراء الاقتصاديين الذين يعتبرون أن إصدار عملات بفئات ضخمة من دون خطط اقتصادية متكاملة قد يؤدي إلى ترسيخ حالة “التضخم المفرط” بدلًا من معالجتها.
يشير الخبير الاقتصادي الدكتور مروان اسكندر إلى أن “إصدار فئات نقدية كبيرة هو اعتراف ضمني من الدولة بفشلها في كبح التضخم، وقد يؤدي إلى مزيد من فقدان الثقة بالعملة الوطنية، ما لم يترافق مع إصلاحات حقيقية تطال جذور الأزمة.”
أزمة الليرة اللبنانية: من القوة إلى الانهيار
حتى نهاية عام 2018، كانت الليرة اللبنانية ثابتة نسبياً مقابل الدولار الأمريكي، بسعر صرف بلغ حوالي 1500 ليرة للدولار. إلا أن الأزمة التي انفجرت في خريف 2019 أدت إلى فقدان الليرة أكثر من 98% من قيمتها، ليتجاوز سعر الصرف حاجز الـ 100,000 ليرة مقابل الدولار الواحد في السوق السوداء بحلول عام 2024.
ترافق هذا الانهيار مع ارتفاع كارثي في أسعار السلع والخدمات الأساسية، وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين، وتراجع مستويات المعيشة إلى مستويات لم يشهدها لبنان حتى خلال سنوات الحرب الأهلية.
سقف السحوبات النقدية: تنظيم أم تقييد؟
في خطوة موازية لقرار إصدار الفئات النقدية الجديدة، أعلن مصرف لبنان أنه بدءًا من أبريل 2025، سيتم تحديد سقف السحوبات النقدية من المصارف بما يعادل 500 دولار شهريًا لكل عميل.
هذه السياسة تهدف إلى ضبط الكتلة النقدية المتداولة، وتقليل الضغط على المصارف التي تواجه شحًا حادًا في السيولة، لكنها في المقابل تزيد من معاناة اللبنانيين الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن سحب مدخراتهم بحرية، في وقت ترتفع فيه الأسعار بشكل جنوني.
مواجهة الشائعات: مصرف لبنان يوضح
وسط هذه الأجواء المشحونة، انتشرت عبر بعض وسائل الإعلام الإلكترونية تقارير نسبت إلى حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد، تصريحات خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، زعمت أنه تعهد بإقفال مؤسسة “القرض الحسن”، المرتبطة بحزب الله.
سارع مصرف لبنان إلى إصدار بيان رسمي نفى فيه هذه المعلومات، مؤكدًا أن التصريحات المنسوبة للحاكم “عارية تمامًا عن الصحة”، داعيًا وسائل الإعلام إلى الالتزام بالمصادر الرسمية وعدم نشر إشاعات تؤدي إلى مزيد من البلبلة في الشارع اللبناني.
وأكد المصرف أن وحدة الإعلام والعلاقات العامة فيه هي المصدر الوحيد المخول بإصدار البيانات والتصريحات الرسمية.
تداعيات الإصدار النقدي الجديد
رغم أهمية إصدار فئات نقدية جديدة لتسهيل العمليات اليومية، إلا أن لهذه الخطوة تداعيات خطيرة إذا لم تُواكب بإصلاحات مالية واقتصادية هيكلية. فالتجارب العالمية، كما حدث في زيمبابوي وفنزويلا، أظهرت أن طباعة مزيد من النقود دون معالجة أسباب التضخم يؤدي إلى نتائج كارثية.
يحذر الاقتصاديون من أن الاكتفاء بإصدار عملات ذات فئات عالية قد يفاقم فقدان الثقة بالليرة اللبنانية، مما يزيد الإقبال على التعامل بالدولار أو بالعملات الأجنبية الأخرى، وهو ما يرسخ ظاهرة “الدولرة” التي تهدد بإضعاف السيادة النقدية للبنان.
ماذا بعد؟
لبنان يقف اليوم أمام مفترق طرق خطير: فإما أن يستغل نافذة إصدار العملة الجديدة كمقدمة لبرنامج إصلاح اقتصادي شامل يتضمن إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وضمان استقلالية القضاء المالي، وإطلاق مشاريع استثمارية قادرة على استقطاب الدعم الدولي، أو أن يستمر في الانحدار نحو سيناريوهات أشد قتامة.
وحتى اللحظة، تبقى الحلول الترقيعية هي السائدة، فيما ينتظر الشعب اللبناني بصيص أمل يعيد إليه بعضًا من الثقة التي فقدها في دولته ومؤسساتها.